يتولد من التكبير “الله أكبر” معانٍ وقيم عظيمة، حين يردده المسلم بلسانه وينفعل به قلبه، يغدو حداً فاصلاً بين حالين:
بين العزة والذلة، بين الإباء والشموخ، والخضوع والخنوع، بين الشجاعة والإقدام، والخوف والخذلان، بين القناعة والرضا، والطمع والشره، بين صلة القلب بالله والركون لغيره.

ومن معاني العزة التي يجب أن نفهمها ونعيش بها، أن نتحرر من شهوات النفس التي تجعل الإنسان أسيرًا، وأن نكون لله عبادًا كما أراد، وأن نجعل الحرية والعدالة والكرامة هي أعلى المطالب، ولا نقبل التفريط في الحق والعدل، ولا نقر للظالم بظلمه.
فالعزة لا تُطلب بالمال ولا بالجاه ولا بالنسب، إنما مصدرها الله تعالى، وحسن الصلة به، وامتلاء القلب بعظمته، وتلمّس مراضيه.

إنَّ الذلة قرينة العصيان، وبقدر نصيب المؤمن من العبادة والتقوى ورفض الظلم والتصدي للباطل تكون السيادة والريادة.

“مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا…” [فاطر: 10]
“وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ…” [المنافقون: 8]

ولسنا نرى من تجسدت صور العزة فيه مجتمعة مثلما تجلت على أرض غزة التي أمطرت السماء عليها بوابل من الضياء والنور والرضا الأعلى، فرأينا الجبال الشم الراوسي في ثبات الأبطال رجالاً ونساء وأطفالاً، حتى غدا تراب غزة شهابًا رصداً لكل خوَّانٍ كفورٍ ظلومٍ غشومٍ.

ورغم استمرار حرب الإبادة قرابة عامين، ودمار المدينة وحصار وتجويع أهلها إلى الحد الذي لم يشهد العالم له مثيلاً، ووسط خذلان العالم وصمت وتآمر الكثيرين، إلا أن أهل غزة لم تلن قناتهم ولم تخر عزيمتهم، وقدموا ما وسعهم فداء لكرامة الأمة وحريتها ومقدساتها.


الحرية والعدالة مطلب عظيم

الحرية مطلب عظيم وغاية من غايات الرسل. لا يقبل المسلم أن يُهان أو تُنتَهك كرامته، وحين يدافع عن حريته، فهو يحمي حرية الآخرين.

قال تعالى:
“لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…” [البقرة: 256]

القرآن الكريم زاهر بعشرات النصوص التي تعظم قيمة الحرية، وكذلك السنة النبوية.
وحين يضيق بالمؤمن مكان، فعليه أن يخوض معركة النضال دفاعًا عن الحرية والعدالة أولاً، فإن تعرض دينه للضياع أو حيل بينه وبين حريته، فعليه أن يبحث عن أرض جديدة يجد فيها أمانه.

“إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” [النساء: 97]

لقد عاش الصحابة الكرام حقيقة الحرية وكانوا عليها حُرَّاساً.
ويوم تسلط ابن عمرو بن العاص على رجل غير مسلم، اقتص منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلاً:
“متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”

تحرير العباد والبلاد من المفسدين شرف كبير.
وبين أعيننا موقف ربعي بن عامر رضي الله عنه في معركة القادسية أمام رستم، وهو نموذج للعزة.
دخل بثياب بسيطة، على فرس له ذيل قصير، ورفض نزع سلاحه، وربط فرسه بوسادة من ذهب، ومشى برمحه يقطع البُسُط حتى جلس على الأرض، وقال:
“إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم.”

وعندما سأله رستم: ما الذي جاء بكم؟
أجابه:
“نحن قوم ابتعثنا الله لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.”

هكذا عاش أجدادنا، وهكذا ينبغي أن نعيش، مرفوعي الرأس لا نساوم على حريتنا وكرامتنا، ولا نقبل المساس بحرية أحد من الخلق، حتى نستحق الخيرية والشهادة على الناس.


رفض الظلم والدفاع عن المظلومين

الظلم جريمة عظيمة، وهو سبب البلاء والهلاك في الأمم، وسنة الله في الظالمين جارية.

“وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا…” [القصص: 58]
“فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ…” [العنكبوت: 40]

والرضا بالظلم جريمة كبرى. ومن يُظلَم لا يجوز له القبول به أو الخضوع للظالم.

قال رسول الله ﷺ:
“إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودّع منهم.”
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“يعجبني الرجل إذا سيم خُطة ضيم أن يقول: لا، بملء فيه.”

حرب الإبادة في غزة واستمرار الحصار ومنع الطعام والشراب والدواء خيانة كبرى للأخلاق والقيم.

حين تقرأ الأجيال القادمة عن حرب الإبادة في غزة، التي طالت كل شيء، ستسأل حتماً:

  • من قتل عشرات الألوف من الأطفال والنساء؟
  • من سمح بهدم البيوت ودور العبادة والمستشفيات؟
  • لماذا صمت العالم أمام كل هذا الإجرام؟
  • ماذا فعلت الأمة الإسلامية؟
  • هل فقد العالم قلبه وضميره وهو يرى تلك المجاعة؟
  • لماذا عجز العالم العربي عن إغاثتهم؟

لكنها ستفخر أن غزة لم تهن، ولم تلن، ولم تستسلم.

وستذكر بالفخر خنساوات غزة، وآخرهن د. آلاء النجار التي قدمت أولادها التسعة في سبيل الله واستقبلت ذلك بثبات المؤمنة الصادقة الصابرة.
وستذكر قوافل الحرية التي انطلقت من دول عديدة – وربانها غير مسلمين – لكسر الحصار الظالم عن غزة.


مسلمو أوروبا والدفاع عن الحقوق

نحن مواطنون أوروبيون، لنا حقوق وعلينا واجبات.
علينا أن نكون قدوة في العطاء، وأن نعرف حقوقنا جيدًا، ولا نقبل التعدي عليها.

إن مسلمي أوروبا جزء من الأمة الإسلامية في كل مكان، يتألم لألمها، ويفرح لفرحها، ويتداعى لمصائبها بالوجع والتفاعل والنصرة، انطلاقاً من رابطة العقيدة:
“إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” [الأنبياء: 92]

وانطلاقًا من القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية والحقوقية، ومساحة الحرية التي نتقلب فيها في أوروبا، لا تترك لنا عذرًا في نصرة غزة، وربط الأجيال الجديدة من أبناء مسلمي أوروبا بقضية غزة وفلسطين، وتقديم ما يمكن من الوسائل المتاحة، وفق خصوصية الواقع ورعاية القوانين.

هل فرغت جعبتنا لتقديم الغوث من أجل غزة؟
نقول: لا. ما زال في الوسع الكثير مما نقدمه، على المستوى الإغاثي، والقانوني، والإعلامي.

فلنفعل شيئًا من أجل كرامة الإنسان.
فلنخض لجج البحر مع القوافل القادمة من دول أوروبية متعددة لكسر هذا الحصار الغاشم.
فإن اغتيال غزة واستمرار نزيفها دون توقف، قتل لروح الإنسان، وهدر لكرامة العالم.

إن سنن الله ثابتة، والحق دائمًا منتصر، والباطل زاهق.

“وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا” [الإسراء: 81]


طه سليمان عامر
رئيس قسم الدعوة والتعريف بالإسلام بمجلس مسلمي أوروبا
رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا